اعتمد النظام الإيراني، منذ بدايته، على قمع معارضيه، لكن في السنوات الأخيرة بات يعتمد أساليب أكثر تعقيدًا من العنف الظاهر، يمكن وصفها بـ"القمع المظلم"، وهو نوع من القمع يركز بشكل أكبر على الضغط النفسي والاجتماعي بدلاً من الضغط الجسدي.
وهدف النظام القمعي هو تحويل المعارض أو المحتج إلى كائن غير فاعل وغير مؤثر، ما يقلل من احتمالية عودته إلى ساحة النضال السياسي. ويمكن تسمية هذه العملية بـ"التحنيط السياسي"، حيث يعمل النظام- بدلاً من القضاء الجسدي على الشخص- على إفراغه من هويته المعارضة وروح مقاومته، ليتركه جسدًا بلا تأثير.
ولا يخفى أن الشخص الذي تعرض للتحنيط السياسي يعيش في حالة لا يكون فيها حرًا تمامًا ولا سجينا، بل يبقى في حالة "تعليق دائم". وفي هذا المقال، سنناقش هذه الاستراتيجية القمعية، وآثارها على المجتمع المدني الإيراني، وأهم السبل لمواجهتها.
تطور القمع في إيران
شهدت أساليب القمع في إيران تحولًا واضحًا، فخلال العقود الأربعة الأولى بعد الثورة، كان أسلوب القمع الأساسي يتمثل في الإعدامات والتخلص من المعارضين. ومذابح الثمانينيات، التي أرسلت الآلاف من السجناء السياسيين إلى حتفهم، تعد أبرز مثال على ذلك. وكذلك عمليات الاغتيال السياسية المعروفة باسم "سلسلة اغتيالات التسعينيات"، والتي استهدفت الكتاب والمثقفين المنتقدين، بالإضافة إلى قتل المتظاهرين في 2019، حيث تم الإبلاغ عن وفاة ما يصل إلى 1500 شخص.
وبعد الاحتجاجات الواسعة عام 2022، المعروفة باسم "انتفاضة مهسا - المرأة، الحياة، الحرية"، لجأ النظام الإيراني أكثر من أي وقت مضى إلى أدوات نفسية واجتماعية لقمع المعارضة. كان الهدف من هذه الطريقة هو تآكل تدريجي للمعارضين وتقويض قدرتهم على الفعل.
ويتميز القمع المظلم بالصمت والخفاء والتعقيد، على عكس القمع الجسدي الذي يكون واضحًا ودماؤه ظاهرة. ومع ذلك، قد يكون له تأثير مدمر طويل الأمد لأنه لا يدمر الشخص فقط داخليًا، بل ينقل الأذى عبر الأجيال على شكل صدمات بين الأجيال.
إن هدف هذا النوع من القمع هو القضاء على الشعور بالأمان، والثقة الاجتماعية والأمل في التغيير، مع محاولة غرس الخوف واللامبالاة في المجتمع. وقد تستمر الآثار السلبية لهذا القمع لعقود.
لماذا مصطلح "القمع المظلم"؟
يشير مفهوم "المظلم" في البداية إلى الأبعاد السوداوية والخفية والمعقدة لهذه الطريقة القمعية. ولكن أكثر من ذلك، يوضح كيف يعمل هذا الأسلوب على تدمير الهوية والإرادة للمعارضين- أو كما ذكرنا سابقًا، "التحنيط السياسي"- دون الحاجة إلى إراقة الدماء.
والقمع المظلم يمارس بأشكال مختلفة، مثل:
- الحرمان من الحقوق الاجتماعية: مثل الحظر من العمل أو التعليم.
- الضغوط المالية: مثل الإقصاء من الجامعة أو مكان العمل.
- التسمية النفسية: وضع التسميات مثل "اضطراب الشخصية" وإجبار الأفراد على الخضوع للعلاج النفسي تحت مبرر "إصلاح الشخصية".
- التهجم التدريجي: تخريب ثقة الشخص بنفسه ومكانته الاجتماعية لجعله غير فاعل ومنسيًا من الذاكرة الجماعية.
هذه العملية تؤدي إلى وضع يصعب فيه على الشخص أن يكون إما سجينًا أو حرًا، بل يصبح في حالة "تعليق" بين القمع والتآكل التدريجي. ويمكن مقارنة هذا الوضع بمفهوم "مواطنون بلا حقوق" في نظرية الفيلسوف الإيطالي جورجيو إيه بن، الذي يشير إلى وضع الأفراد الذين ليسوا مجرمين ولا مواطنين عاديين، حيث يكونون تحت سيطرة القانون لكن دون حماية أو حقوق قانونية.
أساليب القمع المظلم في إيران
1- التسمية النفسية
لهذا الأسلوب تاريخ طويل وليس حكرًا على النظام الإيراني. فدول مثل الصين والاتحاد السوفيتي استخدمت الأسلوب نفسه لإضعاف معارضيهم.
على سبيل المثال، أشار وزير التربية والتعليم في عام 2022 إلى أن الطلاب المحتجين سيتم إرسالهم إلى مراكز الاستشارة "لإصلاح الشخصيات المناهضة للمجتمع". كما تعرض بعض الفنانين مثل أفسانه بايكان لعقوبات مشابهة، حيث تم إجبارهم على حضور جلسات نفسية.
2- الحبس القسري في مستشفيات الأمراض النفسية
من بين أشد وأكثر أساليب القمع المظلم صمتًا ووحشية، الحبس القسري للمعارضين السياسيين في المستشفيات النفسية. والغرض ليس فقط السيطرة على المحتجين، بل أيضًا تدميرهم تمامًا من الناحية النفسية والاجتماعية والهوية.
مثال على ذلك الصحفي والناشط السياسي كيانوش سنجری، الذي انتحر في أكتوبر (تشرين الأول) 2024 بعد تعرضه مرارًا للحبس القسري في مراكز نفسية ووضعه تحت ضغوط هائلة. نهاية سنجري المريرة توضح كيف يستخدم النظام الطب النفسي كأداة ليس فقط لقمع الناس، بل لتدميرهم تمامًا.
3- سلب الحقوق الاجتماعية والمواطنة
نظرًا إلى المصطلحات مثل: "ممنوع من الدراسة"، و"ممنوع من العمل"، و"ممنوع من الصورة"، و"ممنوع من السفر"، و"ممنوع من التعامل"، وغيرها، فهي أمثلة على القمع المظلم الذي يمنع المحتجين أو المعارضين السياسيين من العيش حياة طبيعية. والهدف هو طرد الشخص من المجتمع وإبعاده إلى الهامش.
مثلًا، الممثلة السينمائية ترانه عليدوستي هي واحدة من ضحايا هذا النوع من القمع. بسبب مواقفها، لم تمنع من ممارسة مهنتها فقط، بل تم منعها من السفر وحتى من ركوب الطائرة داخل البلاد.
وعلى مستوى أوسع، يمكن الإشارة إلى الإقالات المنهجية للأكاديميين من الجامعات، وهي جزء من "الثورة الثقافية الثانية"، التي لا تهدف سوى إلى تنظيف المؤسسات التعليمية من الأصوات المعارضة والسيطرة الفكرية على الأجيال القادمة. هذه السياسة ليست مجرد عقاب فردي، بل جزء من استراتيجية أوسع لهندسية اجتماعية وخنق المجتمع.
لماذا القمع المظلم؟
يمكن تلخيص ثلاثة أسباب رئيسية لاعتماد النظام الإيراني على هذه الأساليب:
1- خفض التكلفة الدولية: التعذيب والإعدامات تثير ردود فعل دولية أكبر بكثير من القمع النفسي.
2- مواجهة خطر إنشاء رموز: القمع الجسدي، خاصة الإعدام والعنف المباشر، قد يخلق من مواطن عادي رمزًا ملهمًا. وباستخدام القمع المظلم، يمكن طرد المواطن نفسه وإضعافه دون تكلفة سياسية أو اجتماعية.
3- السيطرة الاجتماعية طويلة الأمد: القمع المظلم يدفع المجتمع نحو الخوف واللامبالاة المستمرة.
الآثار وطرق مواجهة القمع المظلم
على الرغم من أنها قد تبدو أقل تكلفة للنظام، فإن استخدام الأدوات النفسية والقانونية للقمع خفض الثقة العامة في النظام وزاد من "أزمته الشرعية".
فبينما يمكن للقمع المظلم أن يؤدي إلى تآكل مقاومة المعارضين، فإنه على المدى الطويل يزيد من عدم الرضا الشعبي ويغذي الغضب والاستياء من الحكام.
لكن ما الذي يمكن أن يفعله الناس، وخاصة المحتجين والنشطاء السياسيين، لمواجهة القمع المظلم؟
1- إظهار دور المتواطئين في القمع: كشف الأطباء النفسيين والمعالجين والنُظم المشاركة في هذا المشروع.
2- إنشاء شبكات الدعم: تقديم المشورة النفسية والقانونية للضحايا.
3- زيادة الضغط الدولي
4- رفع الوعي العام: نشر الوثائق والتقارير التي تشرح طبيعة القمع المظلم والسُبل الممكنة للوقوف أمامه.
في النهاية، يمكن أن يتحول القمع المظلم إلى واحدة من أكثر سياسات النظام الإيراني رعبًا، ما يضعف إرادة وفعالية المحتجين ضد النظام. ومبادرات مثل "عيادات التخلي عن الحجاب" قد تكون بداية لقمع أوسع نطاقًا، وتحول النقاش من "إصلاح الشعب" إلى "علاج" الشعب بدلاً من إصلاح النظام.