بعد الكشف عن الشروط الثلاثة الواضحة، التي وضعتها واشنطن لاستئناف الحوار، وجد النظام الإيراني نفسه في موقع لا يمكنه فيه العودة إلى الماضي، ولا القدرة على متابعة المسار السابق.

والمسألة الأساسية اليوم ليست ما إذا كان نظام خامنئي سيقبل هذه الشروط أم لا؛ بل إن السؤال الجوهري هو: لماذا يُرسم مصير أمةٍ كاملة مرة أخرى في غياب الشعب ومن خلف أبواب مغلقة؟

لقد وضع النظام الحاكم إيران في وضع لم يعد من الممكن الاستمرار فيه. فالأزمات الاقتصادية المتفاقمة، وتقلّص القدرات الردعية، وتصاعد الغضب الشعبي، دفعت البلاد إلى مسار جديد يبدو فيه أن التغيير أصبح حتميًا.

لكن اتجاه هذا التغيير- نحو تخفيف الأزمة أو نحو مزيد من عدم الاستقرار- يعتمد على قرارات لا تزال تُتخذ بدون أي مشاركة مجتمعية.

وبعد أسابيع من النفي والتناقضات وتهديد كل من تجرأ على الحديث عن "رسالة" أو "تفاوض"، اعترف مسؤولو النظام الإيراني أخيرًا بأن إدارة ترامب طرحت ثلاثة شروط محددة لبدء الحوار، وهي: وقف التخصيب، وتفكيك شبكة الوكلاء الإقليميين، وفرض قيود صارمة على البرنامج الصاروخي.

ويأتي هذا الاعتراف في وقت لم يعد فيه النظام الإيراني في موقف ضعف عسكري فحسب، بل في موقع هشاشة نفسية، ودعائية، واقتصادية أيضًا. فقد تضررت قدرتها الردعية، وتعرضت ميليشياتها الإقليمية لضغط مباشر من الولايات المتحدة وإسرائيل حتى أصبحت شبه عاجزة، بينما الاقتصاد- الذي كان يعاني أصلًا اختلالات مزمنة وتضخمًا متصاعدًا- وصل الآن إلى حافة الانهيار الكامل.

وقد سلطت واشنطن الضوء على قضايا تمثل بالنسبة للنظام الإيراني أكثر من مجرد أدوات للسياسة الخارجية؛ إنها جزء من الأعمدة الأساسية لبقاء النظام.

ويعني وقف التخصيب التراجع عن رمز أيديولوجي استثمر فيه النظام الإيراني سياسيًا على مدى عقدين، كما أن التخلي عن شبكة الوكلاء يعني فقدان الحرس الثوري أهم أدوات نفوذه الإقليمي وأحد أبرز أذرع الردع غير المباشر، والقيود على البرنامج الصاروخي تعني تقليص المجال العسكري الوحيد الذي يعتبره النظام ضمانة لبقائه.

وهذه المحاور الثلاثة كانت تُقدَّم لسنوات باعتبارها "خطًا أحمر"، لكنها اليوم تتعرض لضغط غير مسبوق، والدفاع عن الوضع القائم أصبح أصعب من أي وقت مضى.

وفي المقابل، تجد الولايات المتحدة نفسها، بعد الهجوم الأخير، في موقع قوة. فهي لم تدفع أي ثمن، وتعرف تمامًا أن طهران اليوم لا تملك القدرة على فرض شروطها. ورسالة إدارة ترامب واضحة وصريحة: إما قبول الشروط، أو أن الهجوم الثاني قادم.

وتواجه إيران في الوقت نفسه ثلاثة ضغوط كبرى: تهديد عسكري واحتمال شنّ مزيد من الهجمات، أزمة اقتصادية عميقة تنهك اقتصادًا مشلولًا بالتحريم والفساد والإفلاس، وضغط اجتماعي في بلد وصل فيه صبر الناس إلى أدنى مستوى منذ عقود.

وأما بالنسبة للمجتمع، فالقضية ليست التخصيب ولا الصواريخ. فما شهده الإيرانيون خلال عشرين عامًا من البرنامج النووي هو أربع نتائج واضحة: العقوبات، الغلاء، الضيق المعيشي، واليأس. وقد دُفعت كلفة هذه السياسات مباشرة من جيوب المواطنين، دون أن يكون لهم أي دور في تحديد مسارها.

واليوم، يظهر التباين بين أولويات الشعب الإيراني وأولويات السلطة بأوضح صورة. فالشعب يريد الأمن، والحياة الطبيعية، ومستقبلًا قابلًا للتوقع، بينما تُربط القرارات الكبرى للدولة بخيارات لم تجلب أي منفعة للمواطنين، بل أثقلت كاهلهم.

وتبدو إيران الآن أمام مفترق حاسم؛ فقبول شروط واشنطن يعني التراجع عن أسس بنى النظام شرعيته وقوته عليها طوال أربعة عقود، وهو تراجع قد يهدد بقاءه. ورفض هذه الشروط يعني إدخال البلاد في دورة جديدة من الضغط الأقصى، وهجمات إضافية، وتفاقم الأزمة الاقتصادية.

وأثبتت تجارب العقود الأربعة الماضية أن القرارات التي تُتخذ دون الشعب تتحول في النهاية إلى قرارات ضد الشعب. لا الاتفاق، ولا الحرب، ولا الضغط الخارجي، ولا التفاوض السري يمكن أن يحقق تحسنًا حقيقيًا قبل إصلاح الهوة العميقة بين السلطة والمجتمع.

ويقف النظام الإيراني، بعد حرب الـ 12 يومًا، في موقع لا يمكنه فيه العودة إلى مساره السابق. إنه مأزق استراتيجي نتاج سنوات من صناعة القرار من دون مشاركة شعبية. التغيير بات حتميًا، لكن إذا كان هذا التغيير سيخفف الأزمة أو يدفع البلاد نحو مزيد من الاضطراب، فإن ذلك يعتمد على قرارات لا تزال تُتخذ خلف أبواب مغلقة وبعيدًا عن عيون المجتمع.

ومصير ملايين الإيرانيين اليوم بيد أشخاص لا يريدون لهم الخير، ولا يعترفون أصلًا بـ "شعب" بل يرونهم "رعية" يعتقدون أنها بلا وعي ولا إدراك لتعرف ما هو الأصلح لها.

وهذه النظرة نفسها هي ما يقرّب خامنئي والنظام الإيراني من نهايتهما.

مزيد من الأخبار