أصبح نشر جملة قصيرة لآية الله السيستاني، في هذه الأيام، مصدر إزعاج كبيرًا لنظام خامنئي؛ جملة تبدو بسيطة، لكن لها تداعيات قد تكون ثقيلة على البنية الدينية- الأمنية للنظام الإيراني: "أوصي المؤمنين بعدم الصلاة خلف من يتقاضى راتبًا من الدولة".
وجاءت هذه النصيحة الفقهية ردًا على سؤال بسيط: في بعض الدول الإسلامية تدفع الدولة رواتب للأئمة، ما رأيكم في ذلك؟
وتجاوز رد السيستاني كونه مجرد رأي فقهي عادي ليصبح تحديًا مباشرًا لأسس الحكم الديني في إيران. وأوضح أن سبب نصيحته بـ"عدم الصلاة" خلف الإمام الذي يتقاضى راتبًا، هو "الحفاظ على مكانة الإمام من أي تدخل حكومي، في الحاضر والمستقبل".
وهذه الأسطر القليلة تعتبر هجومًا جذريًا على نموذج الحكم الذي تبناه "النظام الإيراني" خلال 47 عامًا: تحويل رجال الدين إلى أداة حكومية وشراء ولاء آلاف الأئمة والمجتمعين على الصلاة بأموال عامة.
لماذا هذا الموضوع مؤلم لنظام خامنئي؟
قبل الدخول في هذا النقاش، يجب ملاحظة أن العديد من الناس اليوم في إيران لا يهتمون بالاختلافات الداخلية للمؤسسة المعروفة برجال الدين؛ لا رؤية السيستاني جذابة لهم، ولا رؤية خامنئي كذلك. بعد تجربة طويلة ومكلفة للحكم الديني، ابتعد الإيرانيون إلى حد كبير عن النقاشات الفقهية، كما أن الخلافات بين أعضاء هذه المؤسسة الدينية لا تهمهم كثيرًا.
والنقطة الأهم هنا هي التداعيات السياسية لفتوى السيستاني، وليس النقاشات الداخلية للحوزات الدينية.
وحتى لدى المتدينين التقليديين، يُعتبر السيستاني مرجعًا أعلى وأقوى من خامنئي. وهو يشير إلى أن "الاعتماد البنيوي لرجال الدين على الدولة" يمثل مشكلة. ويمكن اعتبار ذلك ضربة قوية للشرعية القليلة التي يحافظ عليها نظام خامنئي بين مجموعة محدودة من المؤمنين بالشيعة.
وبعبارة أوضح؛ السيستاني لا يشكك فقط في الإمام الذي يتقاضى راتبًا، بل يتحدى عمليًا كامل نموذج "ولاية الفقيه" الذي يقوم على هؤلاء الأئمة والأئمة المعينين من قِبل النظام.
كيف جعل النظام الإيراني رجال الدين تابعين؟
قوة النظام الإيراني تقوم على "تبعية رجال الدين"؛ نظام يضم حوالي 30 ألف إمام جماعة في المساجد، وعشرات الآلاف من الأئمة في الدوائر الحكومية، و850 إمام جمعة في المدن، و31 ممثلًا لولي الفقيه في المحافظات.
أغلب الأئمة في الدوائر الحكومية وأئمة الجمعة وممثلو ولي الفقيه في أنحاء البلاد يتقاضون رواتب، ويحصلون على وسائل ومكاتب وسائقين ومكانة رسمية من الدولة. ومن خلال هذا الشبكة الكبيرة، يوزع النظام رسائله السياسية في جميع أنحاء البلاد.
الآن يقول السيستاني إنه من الأفضل شرعيًا عدم الصلاة خلف هؤلاء الأفراد.
هذا يعني أن المساجد في الأحياء، التي غالبًا ما تكون قواعد لـ "الباسيج"، وصولًا إلى صلاة الجمعة في عواصم المحافظات، كلها أصبحت محل شك.
فعلى سبيل المثال، يعلم موظفو الدوائر الحكومية ووزارات الدولة أن إمام جماعة الدائرة عادة يأتي قبل صلاة الظهر بقليل، ويصلي نصف ساعة، ويتقاضى راتبًا. في كثير من الدوائر، أصبحت صلاة الجماعة أداة للرقابة ومنح الامتيازات الإدارية. والآن يقول السيستاني إنه لا ينبغي الصلاة خلف هؤلاء الأفراد.
السيستاني في مواجهة نموذج خامنئي
النقطة الأهم هي أن السيستاني، من موقع مستقل وأعلى، استهدف تحديدًا النقطة، التي بذل خامنئي 36 عامًا لتثبيتها: تبعية الحوزات العلمية الكاملة للنظام.
وقام خامنئي بإنشاء المجلس الأعلى للحوزات، ومركز إدارة الحوزات، وتخصيص ميزانيات ضخمة لها، مما قضى على الاستقلال المزعوم لرجال الدين الشيعة. وكانت هذه السياسة صارمة لدرجة أن العديد من رجال الدين التقليديين انتقدوا "تأميم كامل الحوزات".
والآن يقف السيستاني في موقع معاكس تمامًا، ويقول إن رجل الدين إذا أصبح تابعًا للحكومة، فإن مكانته ستنهار، ولا ينبغي للناس الصلاة خلف هؤلاء الأفراد الذين يتقاضون رواتب حكومية.
وهذا القول لا يشوش فقط على تسلسل الأئمة والجماعات، بل يهاجم عمليًا الجذور النظرية لـ "ولاية الفقيه".
الرسالة الكبرى: رفض النموذج الإيراني
نقطة مهمة أخرى هي أن السيستاني بعد سقوط صدام، وعلى الرغم من امتلاكه نفوذًا اجتماعيًا واسعًا، لم يحاول أبدًا إنشاء نسخة من "ولاية الفقيه" في العراق، لأنه اعتبر هذا النموذج خطأً وغير فعال.
واليوم يستخدم المنطق نفسه ليؤكد أن رجل الدين لا ينبغي أن يذوب في بنية الدولة، وهو ما يمثل العمود الفقري لبقاء النظام الإيراني.
تقييم المواطنين للحكم الديني
يجب العودة إلى نقطة أهم: بغض النظر عما يقوله السيستاني أو خامنئي، فإن تقييم المواطنين للحكم الديني في إيران واضح.
بعد أربعة عقود من التجربة المريرة، السوداء، والدموية والفاشلة للنظام الإيراني، لم تتجاوز الغالبية من المجتمع الحكم الديني فحسب، بل يرون أن الدين لا يجب أن يلعب أي دور في الحكم.
ولو كانت هناك انتخابات حرة، لرفض الناس صراحة هذا الهيكل الديني للحكم؛ وهي حقيقة يعرفها جيدًا جميع أطياف النظام الإيراني، من الأصوليين إلى الإصلاحيين. ولهذا السبب، لا يسمح أي منهم بإجراء انتخابات حرة.

